سوريا بعد الأسد- تحديات التحول الديمقراطي ومعوقات الاستقرار

المؤلف: حنان البلخي09.08.2025
سوريا بعد الأسد- تحديات التحول الديمقراطي ومعوقات الاستقرار

لطالما شكل الانتقال بالسلطة من كنف نظام استبدادي قمعي إلى رحاب نظام ديمقراطي حقيقي تحديًا جمًا وعقبة كأداء في مسيرة الدول نحو الاستقرار، لا سيما بعد عقود طوال من القمع الشرس، والتفرد بالسلطة واغتصابها، وفي الحالة السورية التي رزحت تحت نير حكم عائلة الأسد لأكثر من نصف قرن، فإن مجرد زوال الأسد لن يكون كافيًا ليثمر ديمقراطية راسخة، بل هو فقط فاتحة لمرحلة انتقالية بالغة التعقيد، حافلة بالتحديات والعقبات الداخلية والخارجية على حد سواء.

إن سرد التحديات لا يكاد ينتهي، بدءًا من الإرث الثقيل الملطخ بالفساد والمحسوبيات التي رسخها النظام البائد على مدى عقود مديدة في أروقة مؤسسات الدولة، ومرورًا بمجتمع أضنته سنوات الحرب الطاحنة، وتصدع بنيانه جراء العنف الممنهج الذي مارسه النظام الوحشي ضده، ووصولًا إلى وضع اقتصادي بالغ التدهور، ولا ننسى التدخلات الخارجية التي لا تني تسعى جاهدة لضمان مصالحها الذاتية، ولو على حساب مصالح الشعب السوري واستقرار الوطن المنكوب.

 التحديات الداخلية والإرث المتآكل

عقب سقوط نظام الأسد، شهد الجيش النظامي حالة من التفكك والانحلال، وتولت الفصائل المسلحة التي اندفعت نحو دمشق مهمة الحفاظ على الأمن والنظام. بذلت الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع جهودًا مضنية لدمج هذه الفصائل المتباينة في مؤسسة عسكرية موحدة، إلا أن التحديات ظلت ماثلة تعرقل المساعي، إذ أبدت بعض الفصائل رفضًا قاطعًا للخضوع لإدارة دمشق الجديدة، مما حال دون تحقيق هذا الهدف النبيل بشكل كامل.

وعلى الرغم من ذلك، فقد نجحت الحكومة إلى حد كبير في دمج عدد لا يستهان به من الفصائل المختلفة، وتوصلت إلى اتفاق هام مع قوات سوريا الديمقراطية في مناطق الجزيرة السورية، مما عزز إمكانية ترسيخ الاستقرار في تلك المناطق المضطربة. ومع ذلك، لا تزال بعض الفصائل المتمردة في الجنوب، وخاصة في محافظتي السويداء ودرعا، ترفض الانضواء تحت لواء الدولة، مما يفرض تحديات أمنية مستمرة تقوض استقرار الدولة وتسير بها نحو المجهول.

وبالتوازي مع هذه المساعي الحثيثة، تعمل قوات الأمن جاهدة على ملاحقة فلول النظام السابق المختبئة، وإنهاء حالة الفوضى وانتشار السلاح المنفلت، وذلك لضمان عدم استغلال حالة عدم الاستقرار لإنشاء بؤر توتر جديدة تهدد السلام المجتمعي.

لقد ورثت الحكومة الانتقالية اقتصادًا منهارًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وعقوبات دولية خانقة تكبل الاقتصاد، وبنية تحتية مدمرة لا تكاد تصلح للاستخدام. أدى ذلك بشكل مباشر إلى أزمة اقتصادية حادة، تفاقمت حدتها بسبب غياب الدعم الدولي الضروري لتحفيز النمو الاقتصادي المتعثر.

لقد جعل الوضع الاقتصادي المتردي تحقيق الاستقرار الاقتصادي أولوية قصوى وشرطًا أساسيًا قبل الخوض في أي حديث عن تحول ديمقراطي حقيقي. لذا، وجهت الحكومة جهودها الحثيثة نحو رفع العقوبات الاقتصادية المجحفة، وتحفيز إعادة الإعمار المتوقفة، ودعم وتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية؛ لضمان انتعاش الاقتصاد المتهالك، باعتبار ذلك خطوة ضرورية وحتمية لأي تحول سياسي ناجح ومستدام.

التدخلات الخارجية.. حسابات المصالح لا المبادئ

لا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن الوضع السوري الراهن بعد سقوط الأسد دون التطرق إلى التدخلات الخارجية السافرة. فالقوى الدولية التي كانت إما عاجزة عن إسقاط النظام السابق، أو متواطئة بشكل أو بآخر في بقائه واستمراره، أصبحت اليوم عاملًا أساسيًا يعوق بشكل كبير استقرار سوريا الجديدة المنشود.

منذ اليوم الأول لسقوط النظام، سارعت هذه القوى المتنفذة إلى التدخل وفرض أجنداتها الخاصة تحت ستار واهٍ هو حماية الأقليات المضطهدة، أو ضمان الانتقال الديمقراطي السلس. ولكن في الواقع المرير، لم تكن هذه التدخلات إلا محاولة سافرة لتحقيق مصالح هذه القوى الخاصة الضيقة، بدلًا من تمكين الشعب السوري المكلوم من تقرير مصيره بنفسه ورسم مستقبله المنشود.

إيران وروسيا، اللتان قدمتا الدعم اللامحدود للنظام السابق، استمرتا في دعم فلول النظام البائد، وسعتا بكل ما أوتيتا من قوة إلى زعزعة استقرار البلاد من خلال عمليات تخريبية ممنهجة تهدد بإجهاض جهود الانتقال السياسي الهشة. إلى جانب ذلك، لا تزال العقوبات الغربية المفروضة على سوريا قيد التنفيذ، على الرغم من الحديث المتزايد عن إمكانية رفعها تدريجيًا بشرط تحقيق الانتقال السياسي المأمول.

هذا يطرح تساؤلًا جوهريًا وملحًا: أيهما يأتي أولًا، البيضة أم الدجاجة؟ إذ يظل المطلب السياسي في حالة انتظار مشروط، بينما الأزمة الاقتصادية تتفاقم وتستفحل يومًا بعد يوم لتصل إلى ذروتها.

هذا الوضع يعكس بشكل جلي وحاسم المثل الشعبي الدارج: "صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل، وكول حتى تشبع". فمن جانب، تطالب الحكومة بوضع تصحيحي للمسار السياسي المتعثر، ومن جانب آخر، تثقل كاهلها بقيود اقتصادية مشددة تحد من قدرتها الراسخة على اتخاذ خطوات فعالة وملموسة. وفي نهاية المطاف، تضع هذه الضغوط المتزايدة الحكومة الجديدة في مأزق حقيقي، مما يزيد من تعقيد الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ويؤثر سلبًا على حياة الشعب السوري الذي ضاق ذرعًا.

الانتقال إلى الديمقراطية: عملية طويلة ومعقدة

إن الاعتقاد الساذج بأن سقوط النظام الشمولي يؤدي بشكل مباشر وفوري إلى الديمقراطية الحقيقية، هو أحد أكبر الأخطاء الفادحة التي قد يقع فيها البعض عن غير قصد. هذا التصور السطحي والضيق يؤدي حتمًا إلى خيبة أمل واسعة النطاق بين الناس، ويخلق نوعًا من الإحباط المتراكم بسبب بطء وتيرة التغيير المنشود. فالديمقراطية ليست مجرد انتخابات أو تغيير في السلطة فحسب، بل هي عملية طويلة الأمد تتطلب بناء ثقافة سياسية جديدة ومستدامة.

إن تحقيق التحول الديمقراطي المنشود يقتضي بالضرورة إصلاح المؤسسات القانونية والقضائية بشكل جذري، وضمان حرية الإعلام كسلطة رابعة لا غنى عنها، وتأسيس جهاز أمني نزيه يخدم الدولة العليا بدلًا من خدمة الأفراد أو الأحزاب المتناحرة.

من الضروري تفكيك إرث النظام السابق بعناية فائقة وحذر شديدين، دون خلق فراغ سياسي مفاجئ يؤدي إلى الفوضى العارمة، وهي عملية دقيقة أشبه بتفكيك حقل ألغام شاسع يمتد على طول البلاد وعرضها، ويحتاج إلى عملية طويلة ومعقدة تستلزم وقتًا طويلاً لإنجازها بشكل كامل، وليس ثلاثة أشهر فقط هي الفترة التي تسلم فيها أحمد الشرع وفريقه إدارة البلاد.

منذ ثلاثة أشهر وحتى هذه اللحظة الفارقة تحاول الإدارة السورية بقيادة أحمد الشرع تسريع عملية الانتقال السياسي المتعثرة، وقد دعت إلى حوار وطني شامل في قصر الشعب، على الرغم من أن هذه الدعوة لم تحظَ بترحيب واسع النطاق من العديد من الشخصيات السورية البارزة.

وعقب انتهاء المؤتمر، شُكلت لجنة متخصصة لإعداد إعلان دستوري جديد، وقدمت مسودة دستور وصفتها الحكومة بأنها تأخذ في الاعتبار التحديات الجسام التي تواجه المرحلة الانتقالية الحساسة، فكانت هذه المسودة مثار جدل جديد واسع النطاق بين مؤيد ومعارض، إذ اعتبرها البعض إجراءً ضروريًا لا غنى عنه، بينما رأى آخرون أنها منحت الرئيس الانتقالي صلاحيات واسعة للغاية، وهو ما قد يمهد الطريق حتمًا لاستبداد جديد مقنع، ثم تُوجت هذه الجهود المضنية بتشكيل حكومة من خبرات متنوعة، لكنها لم تسلم كذلك من انتقادات لاذعة وصفتها بأنها "ذات لون واحد"، في جدل مستمر يعكس التوتر القائم بين الحاجة الملحة إلى فرض الاستقرار المفقود، وحماية الحريات الأساسية خلال المرحلة الانتقالية الحرجة.

إستراتيجية البناء التدريجي للديمقراطية

يتطلب بناء الديمقراطية الحقيقية في سوريا منهجًا تدريجيًا متأنيًا يأخذ في الاعتبار جميع التحديات الداخلية والخارجية الجسيمة، إذ لا بد من إصلاح مؤسسات الدولة بشكل تدريجي ومدروس دون اللجوء إلى اجتثاث شامل قد يعطل بشكل كبير عمل الحكومة الانتقالية الحساسة.

يجب إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية بشكل كامل لضمان ولائها المطلق لسوريا وشعبها أولًا وقبل كل شيء، إلى جانب العمل الدؤوب على رفع العقوبات الدولية الجائرة التي تعيق النمو الاقتصادي المنشود. فتحقيق الاستقرار الاقتصادي وإعادة الإعمار الشامل يمثلان شرطين أساسيين لاستدامة العملية الانتقالية برمتها.

من المهم أيضًا وضع خارطة طريق واضحة المعالم لانتقال سياسي حقيقي يعكس مشاركة جميع الأطراف المعنية باستثناء المتورطين في جرائم وحشية ضد الشعب السوري الأعزل.

وفي هذا السياق الحساس، يصبح تعزيز الوعي الديمقراطي والمشاركة السياسية الفعالة جزءًا أساسيًا ولا يتجزأ من أجل نجاح التحول الديمقراطي المنشود. وهنا يأتي الدور المحوري لمؤسسات المجتمع المدني النشطة في توعية المواطنين بأهمية الانتخابات النزيهة، والشفافية المطلقة، من أجل بناء الدولة المنشودة. فالديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي عابر، بل هي ثقافة مجتمعية راسخة تحتاج إلى ترسيخها بشكل تدريجي لضمان نجاحها واستمرارها.

إن التحول الديمقراطي الحقيقي في سوريا يتطلب وقتًا طويلاً وجهودًا ضخمة جبارة، حيث إن إسقاط النظام الشمولي البائد لا يمثل سوى الخطوة الأولى فحسب في عملية معقدة وطويلة الأمد. وإن بناء دولة ديمقراطية حديثة مستدامة يستلزم إصلاحات شاملة على جميع المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، إلى جانب الإرادة المجتمعية الحقيقية والوعي السياسي اللازم.

وعلى الرغم من جميع التحديات الكبيرة الهائلة، يظل تحقيق دولة حرة عادلة مزدهرة قائمة على الديمقراطية الحقيقية هدفًا ساميًا يستحق السعي الحثيث لتحقيقه على أرض الواقع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة